رغم قلة التعليم في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أيام الحكم العثماني لبلادنا فقد كانت الخرافات والأساطير قليلة وهذا القليل سببه الجهل, وهي حكايات تتعلق برؤية الجن من قبل أفراد في أماكن معينة في القريتين, حتى أصبحت هذه الأماكن مشهورة, بيد أن تلك الحكايات لم يعد لها وجود بسبب انتشار العلم في كل بيت من بيوت القريتين, أما الحكايات والملاحم الشعبية فما أكثرها, ولكل فئة من فئات المجتمع حكاياتها وقصصها, فللفلاحين حكاياتهم الخاصة, وكذلك للنساء والصيادين والتجار... إلخ, وهذه الحكايات تحكى خلال سهراتهم, فقد كانوا يحكون ويقرؤون في سهراتهم قصصاً مثل قصة نمر العدوان وزوجته وَضْحى وولده عقاب وقصيدته الجميلة والحزينة التي يخاطب بها ولده بعد وفاة أمه, وقصة الصلبـي الذي خرج لصيد الغزلان مع ولده الوحيد ( فهد ) فقتله خطأً فنظم قصيدة حزينة ومؤثرة جداً وأرسلها لنمر العدوان ليخفف من حزنه على زوجته , فكأنه يقول له أين مصيبتك من مصيبتي يا نمر؟ ! وقصة عبد الله الفاضل وترك قبيلـته لـه مع كلبه شير بسبب الجدري, وقصة بِشر وحبه لابنة عمه حُسُن, والكثير من القصص الجميلة التي تعج بها البادية ومنها القريتين والتي في ثناياها قصائد تغنى على الرباب, كما توجد حكايات وقصص قروانية كثيرة يعرفها الآباء ويجهلها الأبناء, تعبر عن واقع معين عاشه أبناء القريتين أيام الاحتلال الفرنسي وحكم الإقطاع لوطننا الغالي سورية, وسنقتصر على بعض القصص المعبرة عن هذا الواقع :
1ً ـ حادثة معسكر الضمير وقصيدة أبي عاصم :
هي ملحمة يتداولها أبناء القريتين, وهي هامة لأنها تدل على وطنية أبناء القريتين ووقوفهم إلى جانب أشقائهم أبناء القطر العربي السوري في مقارعة الاستعمار الفرنسي, ومن أبطال هذه الملحمة:
1 ـ محـمد حسن الكناوي ( أبوعاصم ) وهو صاحب القصيدة المشهورة في القريتين ولد عام 1920م وتوفي عام 1996م , الصورة رقم ( 1 ) .
2 – محـمد درويش الدراوشة ( أبو صفوح ) 1920 م .
3 – محـمد الدخول ( أبو خالد ) 1920 – 1980م .
4- نجيب الخضير الأخرس ( أبو شكري ) 1910 – 1981م رحمهم الله جميعاً .
وهؤلاء كانوا عساكر في الضمير عام 1945م خمسة وأربعين وتسع مئة وألف, وقد حدثت هذه الحادثة مباشرة بعد قصف البرلمان السوري في 29 أيار واستشهاد حاميته الأبطال( 1 ), وقبل الدخول في التفاصيل أود التنويه بأن هذه الملحمة قد تحدث عنها نائب دمشق والشاعر المعروف فخري البارودي في أوراقه ومذكراته – الجزء الثانـي, ص 299 - وذلك في رسالة موجهة إلى الرئيس شكري القوتلي ( 2) بعنوان: ( بطل قرية الضمير يوم 8 حزيران سنة 1945 م ) حيث يقول فيها: (( بطولة غامضة أريد إماطة النقاب عنها بعد مرور أربعة عشر عاماً ونصف؛ سيدي هل تعلم من الذي قتل قائد الهجانة الإفرنسي وأعوانه من الإفرنسيين في بلدة الضمير في يوم الجمعة... سيدي! كلا لا تعلم. أما الآن فأريد كشف اللثام عن الذي قام بهذا العمل القيم, والذي يفتخر به كلّ عربـي. سيدي إن الذي قتل ذاك الإفرنسي هو من مواطنيك, وهو عربـي الأصل من بلدة لم تدنِّس تربتها الطاهرة قدم أي أجنبي, ولم يـُخيّم بها أي مستعمر سواء فـي عهد الأتراك أو الإفرنسيين, ولم يطرأ على عروبتها أية شائبة لهذا التاريخ ولله الحمد, هـي القريتين )) (3) انتهى النص حرفياً, وهنا أودّ أن أوثّق هذه الواقعة للتاريخ.
في بلدة الضمير حيث تتمركز بها سرية البادية الثالثة التي ضمت الكثير من السوريين ويصل عددهم إلى 546 عسكرياً ( مجموع عدد عناصر السرية 560 خمس مئة وستين عسكرياً ) فـي سلاح الهجانة ( المارست بالفرنسي ) ومن بينهم (16) ستة عشر من أبناء القريتين, ومنهم هؤلاء الأربعة الأبطال, كما ضمّ المعسكر (14) أربعة عشر من الفرنسيين برتب عالية, يقودهم جميـعاً القومندار أي المقدم ( مورو ) آمر عسكر الهجانة في سورية .
بعد قصف البرلمان السوري مباشرة وفي صبيحة الخميس 7 حزيران وفي الاجتماع الصباحي في المعسكر وقف ( مورو ) وهاجم في كلمته العرب والإنكليز وقد ختمها بقوله: سنحتل سورية من جديد رغماً عن الإنكليز, وسيتم جمع الهجانة في تدمر للقيام بهذا الأمر (4 ), وكان يترجم له الجندي الأول متعب, وفـي ليلة الجمعة كان القومندار ( مورو) والكابتين أي النقيب (داهوت كلوك) واليوطنان أي الملازم الفرنسي ( كوني ) وغيرهم في أحد المكاتب يتناقشون حول أوضاع القوات الفرنسية في سورية ولاسيما ما تتعرض له في دمشق, وكان يستمع إليهم مساعد (أجظان ) سوري وهو من أصل أرمني وقيل يونانـي وكان محاسباً و يدعى (كوستا قيّومجي ), وأثناء الحديث بالفرنسية أخذوا يخططون لسحب كافة أسلحة المارست العرب وطردهم أو تصفيتهم لأن معركة البرلمان وقصف دمشق أوجدا جفوة وعدم أمان في المعســـــــــكر بـين العرب والفرنســــيين,وكان الأجظان (كوستا ) يعرف الفرنسية بطلاقة, فذهب ونبّه بعض أبناء العرب الهجانة بتآمر الفرنسيين عليهم وحذرهم من تسليم أسلحتهم, وفعلاً في الساعة السادسة والنصف من صبيحة الجمعة 8 حزيران كان اليوطنان الفرنسي يصـفّ المارســــت ومعه المسؤول عن الانضباط ( سيرجنت أي رقيب ) فرنسي فطلب منهم الذهاب إلى المستودع لتسليم أسلحتهم, وهنا رفض الذين أخبرهم كوستا ليلاً الأمر العسكري, فترك اليوطنان الصفَّ بإمرة السيرجنت لمقابلة رئيس الثكنة, وفـي أثناء ذلك حضر الرقيب ( السيرجنت) ( قاسم الخليف) ومعه سلاحه ودخل الصف دون إذن, فطلب الســـــــــــــــيرحنت الفرنســـي التحية منه, فرفض ( قاسم ) ذلك بحجة أن الرتبة واحدة, وهنا حدثت بلبلة فـي المعسكر, وحاول السيرجنت الفرنسي إشهار مسدسه, فكان ( قاسم ) أسرع منه حيث كانت بندقيته ملقمة فقُتِل الســـيرجنت, وبدأ إطلاق النار في ســـاحة الاجتماع من كلّ جانب, وعندما خرج رئيس الكتيبة ( أسباتيليه ) من بيته داخل الثكنة يستوضح الأمر, أُطلِق عليه النار فأصيب, وعاد إلى بيته وهو ينزف, كما قُتل الملازم الفرنسي ( كونـي) ويقال: إن الذي أطلق النار عليه هو محـمد الدخول وقاسم الخليف, و أخذ محـمد الدخول مسدسه, واحتفظ به حتى وفاته, ولقد حاول سيرجنت شيف ( رقيب أول) فرنسي مستلم مستودع الأسلحة إلقاء قنابل على أبناء العرب, فقُتل أيضاً, وهنا سادت الفوضى, وكان أبو عاصم يحرّض رفاقه على مجاهدة المحتلين كـي تتحرر سورية من الاستعمار, كما دعا رفاقه إلى الجهاد والاستشهاد فـي سبيل الله, وعندما دخل الكابيتين (أسباتليه) على (مورو) والدم ينزف منه حيث كانا يسكنان فـي دار واحدة داخل المعسكر خرج ( مورو ) من داره يصيح: مارست... مارست ( هجانة... هجانة ), فصاح به أبو صفوح وكان بعيداً عنه: يامورو, أتعرف ضحايا البرلمان ؟ وأطلق عليه الرصاص وقتله بعد أن انتفض نحو الأعلى, وكان معه قاسم الخليف وأبو شكري حيث أطلق كلّ منهما النـّار عليه من جانب ولذا وجدت في جثته أكثر من (14) طلقة, ولقد تمّت المحافظة على زوجات الفرنسيين وممتلكاتهم حيث حذرهم أبو صفوح وغيره من التعرض لذلك, كما قُتل العديد من الفرنســــــــيين على يـــــــــــــد هؤلاء الأبطال, وقد قاوم اليوطنان ( بيربو ) أكثر من رفاقه حيث أخذ يرمـي الهجانة العرب برشاشه وبالقنابل, فاستشهد الجندي (جاسم النضوة ) من عشيرة العكيدات من بلدة عذرا وجرح آخر, كما جرح ( أبو صفوح ) بشظية قنبلة, لكن الأبطال الميامين أخذو سيارة مصفحة وهاجموه من قفا المكان المحاصر به, أي من جهة الوادي, وأطلقوا عليه عدة طلقات بالمدفع 37 مم, فهدموا عليه الحائط وقتلوه, ثم سيطروا على الثكنة, وأخذوا بعض الأسلحة والذخيرة, ورفعوا الأعلام السورية على جدران الثكنة بعد أن أنزلوا علم الذل والاستعمار من على مدخلها.
واضطرت القلة الباقية من الفرنسيين إلى الاحتماء بالمكاتب والاتصال مع الفوج الإنكليزي التاسع للنجدة, فتدخل هذا الفوج وحاصر ثكنة الضمير, ولم يتمكن من دخولها إلا في اليوم التالـي بعد لجوء الإنكليز وعملائهم إلى الخديعة, والتقرب من هؤلاء الأبطال والثناء عليهم, فاعتقل من وجد في المعسكر بعد أخذ السلاح منهم, كما تمت مطاردة من فرّ إلى الجبال المجاورة, وألقي القبض عليه, ثم سيقوا إلى ميسلـون في السيارات ومنها إلى جبل المزار, والدبابات تحيط بهم من كل جانب, وكان عددهم حوالى (400) أربع مئة رجل, ويظهر أن الإنكليز كانوا يريدون تهدئة الأمور في سورية وتحقيق الأمن فيها, وكسب صداقة العرب ريثما تنتهي الحرب العالمية الثانية, والقضاء على النفوذ الفرنسي في المنطقة والسيطرة عليها وعلى نفطها, وهذا ساعد هؤلاء فـي عدم تنفيذ أحكام الإعدام بـهم مباشرة, وكان عدد القتلى الفرنسيين تسعة ( خمسة من الضباط وأربعة من ضباط الصف ) وقد دفنوا في مقبرة لهـم في الضمير.
و أهم القتلى من الفرنسيين :
1 – القومندار مورو morrow ( مقدم ) آمر حرس البادية.
2- الكابيتين أسباتليه sptlie( نقيب ورئيس الثكنة ).
3– اليوطنان بـيربو pirbow ( ملازم أول ).
4- اليوطنان فوصوه fossa( ملازم ).
5- اليوطنان كونـي kiny( ملازم ).
كما قتل أيضاً السيرجنت فياليت ( رقيب ), وبعد خمسة أيام من الاعتقال تمّ إحضار الفرنسيين الباقين على قيد الحياة ومنهم الضابط ( درويل ), للتعرف على المشاركين في معركة الضمير, حيث تم عرض جميع العساكر عليهم, وقد تمّ انتقاء وإبقاء (32) منهم, والباقي أطلق سراحهم فـي اليوم التالـي, وأما الأبطال فقد حكم عليهم جميعاً بالإعدام بعد محاكمة استمرت أسبوعاً, وتمر الأيام دون أن يكون هناك أمل بالعفو والإفراج عنهم واستمر توقيفهم أربعة أشهر في هذا المعسكر الذي حوله الحرس والأسلاك الشائكة, ثم تم نقلهم إلى المزة (ثكنة فور غورو والتي سميت بعد الاستقلال بثكنة الشهيد يوسف العظمة), وفي اليوم الثانـي فرّ ثلاثة منهم, بعدها جاء جنرال إنكليزي ومعه مترجم من جبل العرب وذلك لأخذهم إلى بيروت بحجة أن الفرنـسيين سيغادرون البلاد, وأن أصدقاءهم الإنكليز يريدون مكافأة هؤلاء العرب على وطنيتهم، لكنّ المترجم أبت عليه عروبته إلا أن يكشف السرّ لهم, فحذرهم من الذهاب إلـى بيروت حيث سيتم رميهم بالرصاص من قبل الفرنسيين, وقال لهم: لا تنخدعوا, فالكلب لا يعض أخاه, فرفضوا الانصياع إلى أوامر الإنكليز.
وعندما ضاقت الأرض على هؤلاء السجناء, ولم يُجدِ تدخل بعض الوجهاء لإطلاقهم مثل النائبين في البرلمان السوري الشيخ راكان المرشد والشيخ طراد الملحم, وبعد أن صلى السجين (أبو عاصم ) صلاة الصبح وقد تعلق قلبه بالله, جادت قريحته بقصيدة مشهورة خاطب فيها النائب فواز بن نواف الشعلان شيخ عشيرة الرولة القادم لتوه من سان فرانسيسكو حيث شارك مع الوفد السوري في تأسيس الأمم المتحدة, وأثار فيها حميته العربية, فلما بلغته أسرع إلى قائد الجيش الإنكليزي (موركرا) في دمشق, ورفض شرب القهوة إلا بعد الموافقة على إخلاء سبيل السجناء ولو بكفالة منه, وكان للشيخ مكانته, وكان له ما أراد, فأرسل أحد مرافقيه إلى الضمير يخبـر عائلات المسجونين الأبطال بإطلاق سراحهم هذا اليوم إن شاء الله, ثم ذهب مع (موركرا) إلى سجن المزة, وهناك دخل الشيخ فواز على السجناء وسلّم عليهم, قائلاً لهم: ابشروا لقد جئت لأخذكم إلى الضمير, بشرط ألا تغادروها, فأنتم تحت مراقبة الإنكليز, وبعدين بِفرجها الله, وسار موكب هؤلاء الأبطال إلى ثكنة الضمير, وقد عمّت الأفراح هذه البلدة, كما عمّت القريتين، وكان نجم فرنسا فـي سورية قد أخذ بالأفول رويداً رويداً, وخرجت فرنسا من سورية مذمومة مقهورة, وكان الجلاء العظيم, وقد حمى الله هؤلاء الأبطال.
وفيما يلي القصيدة التي نظمها في السجن أبو عاصم والتـي أنجـته ورفاقـه من الإعدام:
الصورة رقم ( 1 ) المرحوم البطل محـمد حسن الكناوي صاحب القصيدة
شرح كلمات القصيدة: تقرأ القصيدة باللهجة البدوية فهي موجهة إلى شيخ قبيلة, ولذا حوت الكثير من الألفاظ المستخدمة في البادية, ومن هنا كان لزاماً عليّ شرح مفرداتها:
الهواجيس: هواجس جمع هوجاس, وهي أفكار تدور في النفس.
ما به مخاليص: ليس منه خلاص, الورع: الطفل الصغير, ويقصد أن وضعه يشيّب الطفل الصغير وهو مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ﴾, المزمل الآية 17 .
القراطيس: جمع مفرده القِرْطَاسُ وتعني الصحف أو الورق الذي يكتب فيه الرسائل, قال تعالى ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ﴾ , الأنعام الآية 57 . وا ون: أتأوه من الألم, من غدا لها غلامِ: الأم التي أضاعت طفلها.
صويباً: المضروب والمصاب بطلق ناري, القفرة : الخالية من الناس.
سليمان: النبي سليمان عليه السلام الذي علمه لغة الحيوانات, الهرج : الحديث والقول, الخواريس: جمع خرساء ويقصد الحيوانات.
مظهر آدم: مخرجه من الجنة بعد أن أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عنها, الفراديس: جمع فردوس وهي أعلى جنان الخلد.
طغوة أبليس: عندما زين الشيطان لآدم الأكل من تلك الشجرة الممنوعة بقوله تعالى مخاطباً آدم وحواء : (وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) .فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها .
المخاليص: الخلاص من السجن, الدعيان : الذين يدعون ربهم.
الوساويس: حمع وسواس وهو ما يخطر بالقلب من شر, أي يدعو وقلبه مفعم بالإيمان بالله تعالى.
10- غدا: أصبح, وفي هذا البيت يشير إلى نحول حسمه والأرق الذي يعذبه.
11- ربوعاً: أصدقاء وأصحاب, مخاليص : مخلصين, السقام : المرض الطويل.
12- يا حيف: كلمة تأسف تقال عندما يكون فـي الأمر نقص أو مذمة, المخاسيس: جمع خسيس وهو الدنـي والتافه.
13- الياجاك: إذا جاءك, الملابيس: الملابس, قضي الكلام: الكلام الكثير والزين.
14- مخطيه: متجاوزه ومبتعد عنه, الفواريس: الفرسان, يقري: يكرم, الضيفان: الضيوف, كود: كلمة لدى البدو تعني غير, وهنا ينفي الفروسية والكرم عمن تخلّى عنه وقت الشدة.
15- هواديس: ما يدور في الفكر من هواجس خفية, الرضامي : الصخور العظام.
16- الميابيس: الجفاف والقحط, إدريس: النبي إدريس عليه السلام.
17- مخضّر القيعان: جاعل البقاع خضراء, العدامي: العدم.
18- عوصٍ: جمع عوصاء وهي من الإبل الشديدة والقوية, عسافهن: أكلهن.
19- مرباعهن: مكان الإقامة في فصل الربيع, مداسيس : وادٍ في الحماد السوري.
20- مقياظهن: من القيظ وهو حر الصيف, مكان الاصطياف عند البدو, عادة ومغاطيس: جبال تقع إلى الشرق من القريتين, اليامى: حتى إذا, تساوى مخهن بالعظام: استوى المخ في العظم من شدة الحرّ.
21- الركايب: النوق التي ستحمل الركاب والأمتعة, قِشهن: ما يوضع على ظهر الناقة الذلول من حاجات ولوازم.
22- ريضوا: ارتاحوا وتمهلوا.
23- درويش: محـمد درويش الدراوشة وحالياً كنيته الدرويش, من أبناء القريتين الذين سكنوا حارة السخانة بحي الميدان بدمشق, كان كثير الاعتزاز بالقريتين, وعُرِف بشجاعته وتقواه, سُجن عام 1943 م لتهريبه الأجواخ والتنباك من الأردن إلى سورية وفرّ من قاعة المحكمة الفرنسية بدمشق بعدما حُلّ القيد من يديه رغم وجود الموظفين والدرك تاركاً هويته لديهم, فالتجأ إلى عشيرة من بني صخر في الأردن, فتوسط له شيخ العشيرة لدى مدير العشائر السورية, فغيّر له كنيته إلى الدرويش ومنحه هوية عشائرية دخل بموجبها سلك الهجانة 1944 م بعد أن شاور شيخه الحارون( 5) وسمح له بذلك بشرط أن يخاف الله, كان حاقداً على المحتل الفرنسي, وهو الذي خطط وصمم على الثأر لجريمة البرلمان يوم 29 أيار, فاستبسل في معركة الضمير, وسُجن مع صاحب القصيدة وحُكم عليه بالإعدام, وكاد الحكم أن ينفذ لولا عناية الله, وهو المقصود بِـ ( بطل قرية الضمير يوم 8 حزيران سنة 1945 م ) كما جاء في مذكرات وأوراق الشاعر فخري البارودي.
24- أبو دحام: الشيخ فواز بن نواف بن نوري الشعلان شيخ عشيرة الرولة (من قبيلة عنزة) الصورة رقم ( 2 ) ومسكنها في عدرا وعتيبة في الجزء الشرقي من غوطة دمشق, تسلم إمارة ومشيخة الرولة في أواخر حياة جده النوري فكان الأخير عندما تأتيه الرولة في بعض الموضوعات يقول: شيخكم فواز. وكانت وفاة الأمير النوري في سنة التي تسمى عند الرولة في سنة الغبار عام 1361هـ/1942م بدمشق، كان نائباً في أول مجلس نيابي سوري أيام الانتداب الفرنسي, وكان واحداً من عشرة نواب يمثلون البدو في البرلمان, وله مكانته وكلمته وسمعته العطرة وعلاقته الطيبة مع أبناء القريتين, وله الفضل في إنقاذ هؤلاء الأبطال من الإعدام حيث كان الفرنسيون لا يردون له طلباً طمعاً في كسب العشائر إلى جانبهم أو اتقاء سطوتهم.
الصورة رقم ( 2 ) : الشيخ فواز بن نواف بن نوري الشعلان شيخ عشيرة الرولة
25- راعي العليا: تطلق على كل رويلي, فهو عندما ينتخي وقت القتال يقول: أنا راعي العليا, وقت اللزامِ: وقت الحرب.
26- شيخ الجواليس: شيخ الجالسين, فاهمٍ بالموامي: يفهم من إيماءة.
27- يدل البيت على محاولة بعض الشيوخ ولاسيما النواب فـي البرلمان – الذين قدموا كل جهدهم - لمساعدة هؤلاء الأبطال في الخلاص من حكم الإعدام ومنهم الشيخان راكان المرشد وطراد الملحم وصاحب القصيدة يعترف بذلك.
28- راكان: راكان المرشد شيخ البطينات من قبيلة السبعة ( والسبعة من ضَنَا عُبَيْد، من بِشْرٍ، من عَنَزَةَ و يعدون ثُمنها ) ومساكنها في منطقة أسريا وأكديم في محافظة حماة, كان نائباً يمثل البدو فـي البرلمان, راعي النواميس: صاحب المجد والشرف, راعي المحاسيس: صاحب الإحساس.
29- طراد: أبو ثامر طراد بن فندي بن سعود الملحم, شيخ عشيرة الحْسنة ( من قبيلة عَنَزة) ومساكنها شرق حمص أو ما يسمى بأرض الشنبل ( الشنبل يكتال به القمح والشعير ويساوي 12 مداً ), كان أبو ثامر شاعراً, ونائباً جريئاً في البرلمان السوري, له علاقات طيبة مع أبناء القريتين, قتل غِيلة بدمشق في كانون الثاني عام 1946 م, ودفن بحمص, ويشير هذا البيت إلى أن طراد كان متعلماً ومن فرسان الكلمة, الدواير: دوائر الحكومة, حايرة: حائرة من كلامه.
30- تلفوا: تقبلون وتجدون في نهاية المطاف, القروم: جمع القرم وهو السيد المعظّم, عذرا: قرية شمال شرق دمشق فيها منازل الشعلان وشيخ الرولة فواز الشعلان.
31 - بيوتاً مكابيس: بيوت كثيرة ومتجاورة وتعج بالناس والضيوف, لايحات كرام : ظاهرة وعلامات الكرم بادية عليها.
32- المحاميس: حمع محماس وبه يحمّص البن, ويشير صاحب القصيدة إلى كثرة المحاميس وأصواتها التي تشبه صوت الرشاش (سلاح آلي يرمي رشاً), فالقهوة مشروب الأجاويد وهي هنا كثيرة والدليل ما أشارت إليه القصيدة بتلك الدلال النحاسية الكثيرة والمملوءة بالقهوة الرائبة والممتازة.
33- انص المسوبع : اقصده, والمسوبع أكبر بيوت الشعر ويرفع على سبعة أعمدة في وسطه ما عدا أعمدة الطرفين وغالباً يكون للشيوخ, وهنا يقصد بيت الشيخ فواز في عدرا , غاصاً بالجواليس : يغص بالجالسين والضيوف, ولد نواف : الشيخ فواز بن نواف الشعلان.
34- يقضي مخاليص: يقضي حاجات الناس الذين يقصدونه ويحل مشاكلهم .
35 – ختمت القصـيدة بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كـعادة الشعراء, وقد
قام بكتابتها أخي الأستاذ فايز الشلحة ( أبو قصي )حيث أملاها صاحب القصيدة عليه عام 1986م, وقام بنشرها عام 1997م وذلك بعد وفاة صاحبها بعام.
هذا وقد نظم الشاعر خالد محـمد العباس ( أبو راتب ) قصيدتين, يمدح في الأولى الشيخ فواز الشعلان وفي الثانية الشيخ راكان المرشد لجهودهما في إنقاذ هؤلاء الأبطال من حكم الإعدام, وستجد عزيزي القارئ هاتين القصيدتين في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
2- قصة الشهيدة آمـنة العساف ( آمنة الحبيس ):
في القصة السابقة كان بعض أبطالها من أبناء القريتين, ولقد ذكرناها في هذا الكتاب لتكون نبراساً تهتدي به أجيال القريتين القادمة في حبهم لوطنهم والتضحية والدفاع عن ترابه المقدس, وفي القصة التالية أذكرها لتكون أيضاً نبراساً لكلّ فتاة طاهرة, تحافظ على شرفها, ولا تبخل بدمها في سبيل مبادئها والقيم الأصيلة التي تؤمن بها, وأوثقها بدقة للتاريخ.
لقد حدثت هذه القصة في 30 أيلول من عام 1946م, وهي مشهورة تشير إلى مرحلة عاشها الريف العربي السوري في ظلم وقهر وحرمان, والقصة أن الشهيدة آمنة بنت محـمد القاسم العساف أو ( آمنة الحبيس ) كما يقال في القريتين ( 1921 – 1946 م ) تلك المرأة الشريفة والبهية الطلعة والمخلصة لزوجها, ولديها صبي وبنت قد تعرضت إلى امتحان صعب في ظل أوضاع صعبة فكانت النتيجة الشهادة والفوز بجنات الخلد إن شاء الله.
لقد حاول ذلك الأهوج التحرش بها وكانت تصده دون جدوى, وكان يعتقد أنه يمتلك الناس وشرفهم وكرامتهم, وعلى الآخرين الرضوخ لأوامره ورغباته ونزواته, كيف لا وقد قام بقتل شاب من القريتين في أيلول 1941م, نتيجة خلاف في عرس, كما حاول قتل شاب آخر, ودخل السجن أيام الاحتلال الفرنسي عدة سنوات ثم أطلق سراحه بموجب قرار العفو ( 204) في 19 أيلول 1945 م, ويخرج منه, ويفعل جريمته الثانية بعد مرور حوالي عام على خروجه وذلك مع هذه الإنسانة الطاهرة, فكانت هذه الجريـمة كما يقولون قد ( غطّت ووطّت ).
قبل ذلك اليوم المشؤوم مرت صباحاً تحمل على رأسها ما جلبـته من الكروم, ففوجئت بذلك الأهوج مع بعض زبانيته فـي طريق عودتها ( بباب القرية ), فتحرش بها كعادته عندما كان يراها أثناء جلب الماء أو العنب, فردت عليه الردّ الذي يستحقه رغم معرفتها أنه مجرم وصاحب سوابق, وفي ذلك اليوم رآها حافية حيث كانت ترمي الأوساخ في حوش إلى جانب دارها فتعرض لها قائلاً:
( مـو أسافة هالرجلين ينحطوا على الأرض ), فردت عليه الردّ الذي يستحقه, وهنا طار عقله إن كان في رأسه عقل, أترد عليه امرأة ؟ ! وكيف تتجرأ عليه وهو من أحفاد الآغا؟!.
وتذهب أم خالد بعد أن نخلت الطحين لتجلب الماء لعجنه من بيت أحد الجيران وهي لا تدري ماذا خبأ لها القدر, وعند عودتها ودخولها بيتها فوجئت بطعنة خنجر!, وحاولت الهرب إلى الشارع تاركة رضيعتها تبكي, لكن الظالم استمر في طعنها, وتمكنت من الوصول إلى بيت جار لها وهي تصيح, ومع ذلك طعنها الطعنة الحادية عشرة, وتسقط مضرجة بدمائها تشتكي إلى اللّه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان, تاركة وراءها طفلاً صغيراً وبنتاً ترضع .
وبعد أن كشف الطبيب الشرعي عليها, شيعت القريتين شهيدتها الغالية وقد خيم الحزن على كل بيت فيها وقد ردد ( أبو ياسر ) صائحاً وهو أحد المشيعين: العِرْض للّه .
ويهرب القاتل حاملاً عقاله وحطته ومسدسه متوارياً عن الأنظار مع رفيقيه إلى المحسّة (15كم ) جنوب القريتين حسب شهادات الشهود, ومن ثم إلى قرية الحفر, ثم ألقي القبض عليه, وحكم عليه بالإعدام شنقاً مع ديّة مقدارها (25400 ) ل. س من قبل محكمة الجنايات بحمص بقرارها رقم 6 في 20/1/ 1947م, ولكن هيهات أن ينفذ, فقد نقض القرار من قبل محكمة التمييز العليا في 10/11/1948م بحجة واهية وهي أن المحكمة التي أصدرته لم تتحقق من السبب الحقيقي الذي يجب أن تسعى لإظهاره, وكان ذلك بمسعى أحد قضاتها وهو من حمص الذي كان صديـقاً لعائلة الجانـي, وهنا أحيلت القضية إلى محكمة الجنايات بحمص لتؤكد من خلال شهادات الشهود كافة أن المغدورة ذهبت ضحية محافظتها على عفافها, ومع كل ذلك أصدرت قراراً آخر يقضي بتخفيض الحكم إلى السجن المؤبد- بدلاً من تشديد العقوبة - وديـّة مخففة ( 12700 ) ل س, بحجة أن الجانـي اعترف بجريمته! مع تغيير في شهادة الجانـي حيث يقول إنه شرب في ذلك اليوم خمراً كثيراً وأن المغدورة شتمته وأخته وعرضه عندما أراد أن ينصحها ؟ وقد أكدت المحكمة أن هذه الحكاية مختلقة لم يأتِ التحقيق بأي دليل يشير إلى وجود أثر لها, ومع كل ذلك خفف الحكم, وماهي إلا سنوات وبموجب قوانين العفو حتى خرج من السجن ليستقر في حمص, ولما مات دفن فيها.
ولقد نص القرار الأول الصادر عن محكمة الجنايات بحمص تحت رقم 6 بتاريخ 20 كانون الثاني 1947م والتي يرأسها بشير فؤاد وعضوية يوسف سمارة وعبدالحليم قدور واعتماداً على قاضي الإحالة بحمص وشهادات الشهود وعددهم ( 16 ) جلهم من القريتين, وأسماؤهم معروفة لديّ, فقد جاء في قرارها العادل في الصفحة ( 163) ما يلي حرفياً: ( لقد هدم الجاني حياة عائلة مستقرة, وقضى على هناءة أسرة بكاملها, كانت تريد أن تحيا حياة شريفة وادعة, لا لذنب اقترفته إلا رغبة المغدورة صيانة شرفها, وعملها على المحافظة على كرامة أسرتها ), ويتابع في الصفحة نفسها: ( ومما يزيد في فداحة هذه الجريمة الشنعاء التي تدل على مبلغ تأصل الإجرام في روحية هذا المجرم, أن قتل المغدورة وقع مع وجود طفلتها الرضيع بين يديها, هذه الطفلة التي حرمها عمل هذا المتهم عطف الأم وحنوها وتركها دون رعاية مما أثار الرأي العام في القرية, وأثار سخط الناس أجمعين حتى أنه جاهر حين القبض عليه من قبل رجال الدرك بعدم مبالاته بما سيصدر عليه من أحكام معتمداً على صدور عفو آخر يشمله عند تغيير رئيس البلاد الأعلى كما شمله العفو الأول ليزداد في إجرامه ووحشيته ).
إن تقرير الطبيب المحلّف والذي قام بالكشف على الجثة و تشريحها أكد وجود ( 11 ) جرحاً فيها منها ستة جروح قاطعة كجرح فـوق الترقـوة وفي جوف الصدر والكتف الأيسر وخلف صيوان الأذن اليمنى وأما باقي الجروح فهي متفرقة ومتوسطة الشدة.
والغريب في هذه القضية ما قاله وكيل الجانـي المحامـي عبد الكريم الحسامي وبالحرف: (إن أسباب الجريمة بقيت غامضة, وأن المغدورة آية في الجمال فعمي بصره, وطاش صوابه, وعمله لا يدل على سلامة عقل, وحسن تفكير, وهو يستحق الرأفة ) ! ( 6 ), أقول معلقاً على كلام هذا المحامي : ( إذن على كلّ جميلة في بلدنا – وما أكثرهن - أن تنتبه الواحدة لنفسها وتحمل سكيناً !!. )
إن القريتين مليئة بالقصص والحكايات, وهي حقيقية وأصبحت من تراثها, وهي تحتاج إلى كاتب سيناريو ومخرج مبدع لتكون من أجمل المسلسلات الواقعية, ولكن بالرغم من هذا الظلم الخارجي والداخلي والفقر والشقاء فقد كان للحياة جانبها الآخر المفرح, والذي يحن إليه كبار السن حيث العلاقات الاجتماعية المتينة, والناس الذين يحب بعضهم بعضاً, ويتقاسمون هموم هذه الحياة.
ولابد أن أعرج على قصة أخرى, لأسلي بها القارئ قليلاً وأنقله إلى جو المرح والسرور, فهذه القصة بطلها أبو وحيد علي الغالـي صديق والدي رحمه الله, وهو صاحب نكتة وبديهة, ومتحدث لبق لديه قصص كثيرة, وسأكتفي بهذه القصة التي جرت معه في الخان.
3- قصة أبي وحيد في الخان ( 7 ):
جرت القصة في تشرين الثاني 1945, وملخصها أن السيد علي الغالي (أبا وحيد) خرج من بيته إلى منطقة الشيخ عاضد في القريتين فرأى صديقه أحمد الشبلخ (الملقب بألمان) ومن خلال الحديث معه علم أنه سيذهب مع رفيقين له إلى منطقة القلمون لشراء القلقاس (البطاطا), فقال أبو وحيد له: اعتبرني الرابع معكم, وفعلاً ذهب إلى بيته, وجهز نفسه, وكان معه سبع ليرات, وفي صباح اليوم التالي ودع أمه, وأخذ حماره, وانطلق الأصدقاء الأربعة إلى دير عطية, وعندما وصلوا الحفر قال لهم أحمد: تعالوا نذهب إلى قارة ففيها شخص أعرفه يدعى صالح دعيبس وهو تاجر جمال وله علاقة مع أهلي, فوافق الجميع, ولما وصلوا قارة ذهب أحمد وأبو وحيد إلى بيت صالح المذكور والآخران إلى الخان للاستراحة وعندما وصلوا بيت صالح رحب بهم, وعلم منهم سبب قدومهم, فأخذهم إلى بيت أخته التي لديها كمية من القلقاس( البطاطا ), فاشتروا الكمية كلها, ثم قامت صاحبة البيت بجلب المتة, وهنا شعر أبو وحيد بالإحراج فهو لأول مرة يراها, ولا يعرف كيفية شربها, ولكم كانت فرحته كبيرة عندما شرب صالح الكأس الأولى, فكان يغمز صديقه كي يتعلم طريقة الشرب, وانتهت المشكلة على خير, ووضعوا القلقاس في الأكياس, واستأذنوا بالانصراف, وذهب أبو وحيد ورفيقه إلى الخان, وفي غرفة كبيرة فيه وجدا خمسة أشخاص هم الصديقان القروانيان وشيخ ذو لحية شقراء طويلة واثنان من مريديه, وكان بقرب الشيخ شيش ومزهر فيه خشاخيش, وأبو وحيد يحب الطرب والغناء, فأخذ بصوته العذب يغني الميجانا والعتابا والموليـّا, وكل من يسمعه فـي الخارج يدخل حتى تجاوز عدد الحاضرين الثلاثين, وهنا تشجع أبو وحيد, فتقدم باتجاه الشيخ وقال له : أتسمح لـي يا شيخي بهذا المزهر, فكان ردّ الشيخ : هذا ما خلق إلا لذكر الله يا أبني, فرجع أبو وحيد إلـى مكانه, وتابع الغناء والجميع يغنون معه, ثم غنى أبو وحيد:
وفجأة وقف الشيخ وصاح: ( بسْ ما هيك بغنو امسك لي هالدف ) فأخذ أبو وحيد يضرب على الدف, وخلع الشيخ عباءته, وأخذ يفتل في وسط الغرفة كما يفعل أصحاب الطرق الصوفية, ثم بدأ الشيخ يغني:
صورة رقم ( 3 ) وفيها أبو وحيد يقص قصصه الممتعة
فعمّ الطرب الخان, وكانت من ليالـي العمر عند أبـي وحيد, الصورة رقم ( 3 ) , فقد استمر الغناء حتى ساعة متأخرة من الليل.
إن ابن القريتين ذكي, وذكاؤه فطري, وله حضوره خارج مدينـته, وهو يتجوهر إذا تغرب عن مدينـته, وكذلك تتجوهر ابنـتها إذا تزوجت, وأبناء القريتين يحرصون على سمعتهم وسمعة مدينتهم لأنهم يحبونها حباً جماً, فالقريتين هي – ست البلادِ – كما يقول أبناؤها, فهي موطنهم, وحب الوطن من الإيمان, هذه بعض حكايات القريتين وما أكثرها حيث المتعة والفائدة والتسلية وإنني أكتفي بهذه النماذج فهي تعطي صورة صادقة عن القريتين ( 8 ).
حواشي وإحالات :
1- بلغ مجموع شهداء مجزرة 29 أيار 1945م المعروفين 616 شهيداً بينهم 39 شهيداً من رجال الدرك و 2072 جريحاً, وهذه الأرقام أخذت من (كتاب تاريخ أمة في حياة رجل ) .. أربع سنوات من العهد الوطني 1943- 1947م وهو يتحدث عن الرئيس شكري القوتلي لمؤلفه عبد اللطيف اليونس - مطبعة اليقظة العربية بدمشق 1947م.
2- شكري القوتلي: ولد في دمشق 1891م, حكم عليه جمال السفاح بالإعدام, كما حكم عليه الفرنسيون مرتين بالإعدام, تسلم رئاسة الجمهورية السورية من عام 1943- 1946 م وأعيد انتخابه بعد الاستقلال, وكذلك من عام 1955- 1958م, ومنح لقب المواطن العربي الأول, توفي رحمه الله عام 1967م ( الأعلام للزركلي ).
3- أوراق ومذكرات فخري البارودي, القسم الثاني / ص 299 / إعداد وتحقيق دعد الحكيم/ وزارة الثقافة – دمشق 1999م.
4- كانت الهجانة موزعة على ثلاث سرايا تدعى سرايا البادية وهي الأولى في تدمر والثانية في دير الزور والثالثة في الضمير, وكان مجموع الهجانة 1800 عنصراً كما ورد في المصدر السابق.
5- ولد الشيخ أحمد الحارون بدمشق 1315هـ – 1897 م وتوفي 1382 هـ - 1961م فيها, وكان عالماً صالحاً ومتصوفاً صافياً بعيداً عن الشطحات والبدع, تروى عنه قصص وكرامات كثيرة وكان من المجاهدين ضد الفرنسيين وفي فلسطين .
6- كنت أتمنى أن يُسمى شارع أو مدرسة أو ساحة فـي القريتين باسمها, ولروحها الطاهرة قمتُ بنظم قصيـدة ومـما جاء فيها :
( عمرو هو أبو جهل الذي قتل سُميّة أول شهيدة في الإسلام ) .
7- الخان: كلمة تترية تعني الملك, كما أطلق الأتراك الخان على الفندق الذي ينزل فيه المسافرون, ويتألف عادة من ساحة تربط فيها الدواب, وتحيط به حجرات للنوم وأخرى لحفظ الأمتعة.
8 - اقتصرت على ذكر هذه القصص الثلاث الحقيقية من قصص كثيرة أعرفها ويعرفها أبناء القريتين ولا سيما كبار السن, متوخياً من وراء ذلك تبيان الأمور التالية فقط:
- حبّ ابن القريتين لوطنه, والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الدفاع عن ترابه الطاهر.
- محافظة بنات القريتين على شرفهن وكرامتهن, والجود بالروح والدم في سبيل المبادئ والقيم الأصيلة.
- ابن القريتين اجتماعيّ بطبعه, مرح رغم فقره وقسوة الحياة عليه, وله حضوره داخل بلدته وخارجها.